Ad image

الجاهلية في رؤوس معاصرة

dawoud
9 Min Read

وكالة تليسكوب الاخبارية – بقلم د. إبراهيم بدر شهاب

   الجاهلية انحراف في السلوك وهبوط في مستوى الأخلاق وارتكاس في الآدمية إلى مستوى الوحشية ، وتغييب للعقل في المواقف التي  يتطلب الأمر فيها حضوره وتحكيمه . ويستوي فيها العامي والمتعلم ، والغني والفقير والرجل والمرأة ، وساكن المدينة وابن البادية .

   ومظاهر الجاهلية كثيرة ومتنوعة ليس أقلها : الظلم ، والقهر ، والاستعباد ، والإسراف في الدماء ، وأكل المال بالباطل ، حيث لا قانون يردع ، ولا نظام يضبط إيقاع الحياة وينظم حياة الناس ، فتكون الهيمنة المتوحشة فيها للأقوى والأشرس ، ويحكم فيها على الضعيف دائماً أن يكون هو الضحية ، ومحل الطمع والابتزاز . ذلك أن موانع السلوك العدواني لدى الجاهلي ليست بالقوة التي تردعه عن الفعل القبيح مهما صغر ، ولم تصده عن ردة الفعل الجاهلية الموغلة في الظلم والعدوان ، وقد لا يجد في نفسه بعد الخصام دافعاً للاعتذار أو تصويب الأفعال القبيحة التي صدرت منه ، لأن العقلية الجاهلية أضعف من أن تدفعه إلى التغاضي والتسامح والتصالح .

   وعلى هذا لا تعرف الجاهلية زماناً محدداً ولا مكاناً معيناً ، وليست هي صفة خاصة بأولئك الذين عاشوا في حقبة ما قبل الإسلام ، وإنما تسود في كل الأوقات وفي جميع بقاع الأرض متى تهيأت لها ظروف السيادة والتمكين . وما نشاهده اليوم من تلك المظاهر لهو دليل ساطع على امتداد الجاهلية وتجذرها في العقول ، وظهورها جلياً في السلوك .

    ورغم المسافة الزمنية الطويلة التي تفصل بيننا وبين الجاهلية الأولى ؛ إلا أن قيمها وعاداتها الحمقاء ما تزال تسري في كثير من الرؤوس ، التي سرعان ما تستفزها تلك القيم عند نشوب الخلاف أو النزاع ، فيطغى سلطان الجاهلية المتأصل فيها على قيم الحق والعدل ، ويأبى إلا أن يترجم في سلوكها الأحمق عنفاً وعدوانا . ذلك أن رواسب الجاهلية ما تزال تأخذ مكانها الأوسع فيها ، وتحتل المساحة التي خصصها الشيطان لذلك هناك ، ولذلك تبقى هي المسيطرة على مجمل السلوك ، والموجهة له إلى حيث قبيح الأعمال ورذائل الأخلاق .

   إن أبرز ما في الجاهلية القديمة هو امتداد عادة الثأر لتطال الأبرياء من الأقرباء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم أقرباء الجاني ، والقرابة في نظر الجاهلية تعد – في مثل هذه الحالات – شريكة في الغرم دون الغنم ، وتتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية الجاني ، حتى لو كان من أطراف القبيلة أو من مواليها ، وبالتالي فهي محل مشروع للثأر والانتقام . وقد لا يقف الأمر عند قتل الجاني أو بديل واحد منه ، سواء أكان أخاه أم أباه ، أو أي من أقرباه  ؛ بل يتجاوز في كثير من الحالات الخصم المباشر ليطال العديد من أقاربه ، وفقاً لما يراه الجاهلي معادلاً لقيمة قريبه القتيل التي يقررها هو ، ويحدد كم عدد الذين يجب أن يقتلوا به .

   تلك عادة الجاهلية البغيضة الممتدة عبر الزمان والمكان . وقد لا يقف أمر هذه العادة عند حدود القتل والثارات المتعددة المتبادلة ، بل يمتد ليشمل كافة أنواع الخلافات ، صغيرها وكبيرها على حد سواء . فإذا وقف الأمر عند حدود الغضب والشتم والملاسنة مثلاً ؛ فإنه يأخذ المدى نفسه الذي يأخذه ثأر القتل ، ولكن بصورة أقل عنفاً وأخف دموية ، وإن كان يساويه في الامتداد والانتشار .

   ولا يختلف سلوك الجاهلي المعاصر عن سلفه القديم من حيث إنه يأخذ البريء بجريرة المذنب ، فإذا سابّه أحد أو شاتمه هاجت به نار الانفعال واستشاط غضباً ، واستنفر في سبيل الدفاع عن نفسه وحفظ كرامته كل قيم الجاهلية المستوطنة في عقله ، فيرد له الصاع ظلماً صاعين ، ويقلع له بدل السن سنين ، ولم يشف غليله بعد ذلك إلا أن يوسع دائرة الخلاف ويزيد في عدد الخصوم ، ويصر على شمول أقاربه بمظلة الخصومة والقطيعة ، ولذلك فهو يطالب الجميع بالاعتذار ، وإلا فالقطيعة معهم قائمة ومستمرة حتى يتم الاعتذار .

   وتشيع هذه العادة لدى مختلف الأمم والشعوب ، وهي عندهم ليست بمحل استغراب أو استهجان ، ولكن الغريب أن يمارس هذه العادة بعض ممن ينتسبون إلى الإسلام أو يدَّعونه ، والإسلام من أفعالهم براء ، بل ويحكم عليها بالرفض ويواجهها بالتنديد والإنكار . وليت هؤلاء يوجهون جاهليتهم إلى أعداء الأمة وخصومها ، إذن لهان الأمر ؛ ولكنهم يتلذذون بالظلم والعدوان مع إخوانهم في الدين ، وأقاربهم في الرحم ، وجيرانهم في المسكن ، وزملائهم في العمل ، وكأنهم ليسوا بمسلمين ، أو لم يصلهم الإسلام بعد ، لذلك تلح عليهم طبيعتهم الجاهلية أن يكونوا وحوشاً في أثواب آدمية ، ويأبى الطبع الجاهلي المتأصل فيهم إلا أن يغلب التطبع الحضاري الإسلامي الذي لم يتمكن منهم بعد ، ولم تتشرب نفوسهم فضائله ، ولم تشع فيهم أنواره . وهذا حال الكثيرين من الذين لم يهذبهم الدين ، ولم يلين عقولهم العلم ، ولم تصقلهم قيم الحضارة المعاصرة ، ولم تردعهم هيبة القانون ، أو يأخذهم سلطان الجماعة . ولذلك يصعب عليهم – وهذه حالهم – مغادرة هذا الطبع الجاف ، أو تغيير ما هم عليه من سلوك جاهلي ، أو طرح الأفكار البائدة التي تجول في رؤوسهم المتخمة بلوثات الجاهلية ومبادئها المجافية للعقل والمنطق والحكمة .

   وفي مقابل هذه الصورة الجاهلية القاتمة تظهر بجلاء صورة المسلم الحق ناصعة بهية ، طاهرة نقية ، مترجمة في سلوكه القويم ، محكومة بالعقل ، مهذبة بالدين والخلق الكريم ، وهو إذ يمتنع ابتداء عن الأذى والعدوان ، فإنه يحتمل الأذى صابراً محتسباً – ولا سيما إذا صدر عن إخوانه المسلمين – ، ويكبح جماح نفسه ، ويقف عند حدود الله ولا يتجاوزها ، يستحضر في ذهنه قول الله تعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ، وقوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام : ( معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذن لظالمون … ) ، كما يستحضر دوماً الأوامر الإلهية والتوجيهات النبوية التي تدعو إلى الصفح والتغاضي والتغافل ، ويتفاعل معها ويتماهى ، متمثلاً في سلوكه وتصرفاته عند الخلاف قول الله عز وجل : ( … والكاظمين الغيظ ، والعافين عن الناس ، والله يحب المحسنين ) وقوله تعالى : ( خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين ) . وقوله تعالى : ( ادفع بالتي هي أحسن ) . وقوله : ( وكونوا عباد الله إخواناً ) . ويتردد في ذهنه صدى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( … المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ ، لا يَظْلِمُهُ ، ولا يَخْذُلُهُ ، ولا يَحْقِرُهُ … كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ : دَمُهُ ، ومالُهُ ، وعِرْضُهُ … الحديث ) .

   إن هذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة ، التي يعيش معها وبها ، تملأ عليه أركان نفسه ، فتهز وجدانه ، وتقع على قلبه برداً وسلاماً ، وتضبط سلوكه وفق منهج الله ، فيظهر لديه الخلق الكريم صفحاً وغفراناً وسلوكاً قويماً . وفوق ذلك يلح عليه خلقه أن يسعى جاهداً لإخماد نار الخلاف مهما كبرت ، ويحصرها في أضيق الحدود ، فتمر الخلافات – التي يضطر أن يكون طرفاً فيها – صغيرة قصيرة حقيرة ، وتأخذ مسارها السهل إلى الصلح بأيسر سبيل وأقل الخسائر . وبذلك يحصد احترام الجميع وينال محبتهم وثقتهم ، يعيش بينهم محمود السيرة ، مرفوع الهامة ، موفور الكرامة .

د. إبراهيم بدر شهاب

20/10/2020

Share This Article