وكالة تليسكوب الإخبارية /العقبة / موسى الدردساوي
في ذاكرة الوطن، تظلّ أسماءٌ خالدة تحفر حضورها بأفعالها ومواقفها. وصفي التل، أحد هؤلاء الرجال، كان رمزًا للوفاء والتضحية، ورائدًا في مسيرة بناء الدولة الأردنية. شخصيته الاستثنائية جمعت بين الحزم والرؤية، وبين الانتماء العميق للأردن والقومية العربية.
ولد وصفي مصطفى وهبي التل عام 1920، في بيت يفيض بالشعر والفكر، إذ كان والده شاعر الأردن الكبير مصطفى وهبي التل (عرار). نشأ وصفي في أجواءٍ تروي قصص النضال وتستنهض الحس الوطني. تلقى تعليمه الابتدائي في مدارس إربد والسلط، ثم واصل دراسته الجامعية في العلوم والفلسفة بالجامعة الأميركية في بيروت. ومنذ شبابه، بدأ يتلمّس طريقه في خدمة وطنه، عاملًا في التعليم ومناصب حكومية ودبلوماسية، حيث تنقّل بين عمّان والقدس وبغداد وطهران، ليغدو لاحقًا واحدًا من أعمدة الدولة الأردنية.
شغل وصفي التل العديد من المواقع الرسمية، التي عكست تنوعًا في الأدوار التي أتقنها بإخلاص. بدأ مدرّسًا في الكرك، ثم عمل في دائرة الإحصاءات العامة، وتقلّد مناصب مثل مدير المطبوعات، ورئيس التشريفات الملكية، ورئيس التوجيه المعنوي، وعضو مجلس الأعيان. كما مثّل الأردن دبلوماسيًا في سفاراته بموسكو وطهران وبغداد.
لكن أهم محطاته السياسية كانت تولّيه رئاسة الحكومة الأردنية ثلاث مرات، أعوام 1962، 1965، و1970، حيث ترك بصمة لا تمحى في إدارة شؤون الدولة. عُرف بإدارته الحازمة وشخصيته العملية، إذ كان يؤمن أن الحكومة خادمة للدولة وليست حاكمة، وأن برامجها يجب أن تكون قابلة للتطبيق على أرض الواقع.
كان وصفي التل رجلًا يتحدث بلغة العمل لا الوعود، مؤمنًا بأن سيادة القانون ووحدة الصف الوطني هما عماد بناء الدولة. ومن أبرز إنجازاته تأسيس الجامعة الأردنية، التي أصبحت منارة للعلم في المملكة، وإطلاق معسكرات الحسين للعمل، التي عززت روح الشباب والتنمية الوطنية.
في كل خطاباته، كان التل يكرر أن الوطن بحاجة إلى عملٍ مخلص وشجاع، وأن حب الأردن يتطلب مواجهة تحديات العصر بتكيف إيجابي وتطور حقيقي. كان يؤكد أن الخدمات يجب أن تُوفَّر بعدل، وفق الإمكانات المتاحة، دون مغالاة أو تجاوز.
على المستوى القومي، كان وصفي التل مدافعًا شرسًا عن قضايا الأمة العربية، ورأى في الوحدة العربية ركيزةً أساسية لتحقيق التقدم. وفي الوقت ذاته، عُرف بمواقفه الرافضة لأي شكل من أشكال الفوضى أو المساس بسيادة الدول.
في 28 تشرين الثاني 1971، غُدر وصفي التل أثناء مشاركته في اجتماع مجلس الدفاع العربي المشترك في القاهرة، في حادثةٍ هزّت الأردن والعالم العربي. استشهاده لم يكن خسارة لشخصٍ فقط، بل كان فقدانًا لقائدٍ حمل الوطن في قلبه وعقله، ورحل وهو يسعى إلى حماية وحدته وأمنه.
وصفي التل ليس مجرد اسم في كتب التاريخ؛ هو قصة رجل أخلص لوطنه وقيادته الهاشمية، وأحب أمته العربية بكل جوارحه. إرثه يتجاوز الإنجازات المادية، ليجسد نموذجًا للقيادة الحكيمة والولاء الصادق.
في ذكراه الخالدة، يبقى وصفي التل رمزًا لوطنية لا تعرف الحدود، وشاهدًا على زمنٍ صنع فيه رجال مخلصون مستقبل الأردن بثباتٍ وإرادة. رحل بجسده، لكنه بقي حيًا في قلوب الأردنيين وذاكرة الوطن.