
بقلم: موسى الدردساوي
لطالما ارتبط اسم “الجندويل” في أذهان البعض بصور نمطية قد لا تعكس الواقع. فالبعض يراها مجرد مركز أمني يثير القلق، بينما تحمل في طياتها بعدًا آخر يروي حكاية الفروسية، والانتماء، والأمان الذي توفره لمن يعيشون في كنف هذا الوطن.
في عام 2004، عدت إلى الأردن بعد سنوات من الغربة في اليمن. كنت أحمل معي شوقًا لا يوصف للوطن، غير أنني لم أكن على دراية ببعض التفاصيل القانونية، إذ كان جواز سفري منتهي الصلاحية منذ فترة طويلة. ولثقتي بأنني لن أحتاج إلى جواز جديد فور وصولي إلى بلدي، قررت تجديده بعد العودة، غير مدرك لما قد يترتب على ذلك من إجراءات رسمية.
عند وصولي إلى مطار الملكة علياء الدولي، مررت بإجراءات الدخول المعتادة، وحينما قدمت جواز سفري لضابط الجوازات، طلب مني الانتظار وأشار إلى أحد المقاعد للجلوس. لم تمضِ سوى دقائق مرت قبل أن يقترب مني رجل مدني قدّم نفسه على أنه من الأمن، وطلب مني مرافقته. سرنا معًا حتى وصلنا إلى مكتب داخلي، حيث كان هناك ثلاثة أشخاص يرتدون الزي المدني. ألقيت التحية فردّوها باحترام، ثم بادر أحدهم بتهنئتي على سلامة الوصول وسألني عن سبب عدم تجديدي لجواز سفري قبل العودة. أجبت ببساطة: “ولمَ أجددّه في اليمن وأنا عائد إلى الأردن؟ يمكنني القيام بذلك هنا بكل راحة.”
تابع بسؤالي عمّا إذا كان هناك أحد بانتظاري في الاستقبال، فأجبته بأن والديّ وإخوتي في انتظاري، دون أن أعرف تحديدًا من يرافقهم. ابتسم وقال لي بلطف إن ما قمت به يخالف القوانين ويتطلب مراجعات أمنية، لكنني مرحبٌ بي في أي وقت، لذا سيتم الاحتفاظ بجواز سفري حتى لا أتأخر على عائلتي، على أن أراجِع دائرة المخابرات العامة في “الجندويل” لاستلامه. عندها فقط أدركت أنني كنت في مكتب المخابرات داخل المطار.
شكرته بحرارة، وخرجت من المكتب لأجد عائلتي بانتظاري، تغمرهم الفرحة بعودتي. لم أشأ أن أفسد عليهم بهجة اللقاء بإخبارهم أن جوازي بقي في عهدة المخابرات، إذ كنت أعلم أن هذا الخبر قد يثير قلقهم.
بعد خمسة أيام، أخبرت والدي بما جرى وسألته إن كنا بحاجة إلى واسطة أو أي إجراء احترازي، فاكتفى بسؤالي: “هل قمت بأي تصرف يسيء للأردن؟ هل انضممت إلى أي تنظيم سياسي أثناء وجودك في اليمن؟” أجبته بالنفي القاطع، مؤكدًا أنني طوال سنوات غربتي كنت أحمل الأردن في قلبي. ابتسم والدي وقال لي بثقة: “إذًا لا داعي لأي قلق. طوال ثلاثين عامًا من عملي على الشاحنات والسفر، لم أرَ المخابرات تحتجز أحدًا بلا سبب أمني حقيقي.”
وفي اليوم السابع، توجهت إلى “الجندويل” لمراجعة دائرة المخابرات. لفتني هناك الرقي في التعامل والاحترام الواضح للمراجعين. لم يستغرق الأمر أكثر من نصف ساعة، خرجت بعدها بجوازي في يدي ومعي قناعة جديدة بأن الجندويل ليست كما يُشاع، بل هي مكان يضمن أمن المواطن ويحترم كرامته.
إن تجربة الجندويل ليست مجرد إجراء أمني، بل هي انعكاس لرسالة أكبر: أن الأمن في الأردن قائم على مبادئ الاحترام والعدالة. رجال المخابرات العامة في الجندويل ليسوا سوى امتداد لتراث الفروسية والشجاعة، ساهرين على أمن البلاد، متفانين في حماية الوطن والمواطن.
لطالما كانت الجندويل رمزًا للعطاء والتضحية، وملجأً لمن يضعون مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. لقد أثبتت التجربة أن ما يُقال عنها لا يعكس دائمًا حقيقتها، بل إن الواقع يحمل صورة مشرقة من المهنية والاحترام.
قد تحمل بعض الأماكن أسماءً يرتبط بها خوف غير مبرر، لكن الحقيقة لا تتجلى إلا من خلال التجربة المباشرة. الجندويل ليست مجرد اسم في سجلات الأمن، بل هي درع يحمي الأردن وأهله. إنها دليل على أن الوطن يحتضن أبناءه، ويعاملهم بعدالة واحترام، وأن رجاله هم فرسان الحق الذين يعملون بلا كلل لحماية استقراره وازدهاره.