
وكالة تليسكوب الإخبارية العقبة – موسى الدردساوي – خاص
مع أذان المغرب، تتجمع العائلات حول موائد الإفطار في فنادق العقبة الفاخرة، حيث تتلألأ الأطباق الشهية وتُزين الطاولات بأصناف الطعام المتنوعة. لحظات فرح واحتفاء بالشهر الفضيل يعيشها الضيوف، لكن ما لا يدركه كثيرون أن جزءًا من هذا الطعام الفائض سيحمل في طياته رسالة أمل لعائلات تنتظر وجبتها في الجانب الآخر من المدينة، حيث لا بريق للفنادق، بل بيوت تضيئها القناعة والاحتياج.
في كل ليلة، وبعد انتهاء الولائم، تتحرك مجموعة من الشباب المتطوعين بهدوء داخل مطابخ الفنادق، يجمعون الطعام الفائض الذي لم تمسه الأيدي، يعبئونه بعناية، ثم ينطلقون به إلى منازل لم تستطع موائدها أن تحمل ما يكفي لإطعام صغارها. هناك، بين الأزقة الضيقة، وبين يدي أمّ تنتظر بفارغ الصبر ما يسد رمق أطفالها، تأخذ المبادرة معناها الحقيقي: “حفظ النعمة” ليس مجرد مشروع، بل هو حبل نجاة يربط بين من يملك الفائض ومن يفتقد الأساسيات.”
حكاية بدأت بصدمة.. وتحولت إلى رسالة
قبل خمس سنوات، كانت حنين الجارحي، مؤسسة المبادرة، تحضر حفل في أحد فنادق العقبة عندما رأت بأمّ عينيها كيف تُرمى كميات كبيرة من الطعام في القمامة بعد انتهاء الحفل. شعرت بصدمة، لكنها لم تكتفِ بالاستنكار، بل قررت أن تكون جزءًا من الحل. وبعد ايام ، اجتمعت مع مجموعة من أصدقائها، وبدأوا بوضع خطة لجمع الطعام الفائض من الفنادق والمطاعم وإعادة توزيعه على الأسر المحتاجة.
الطعام الذي يحمل في طياته قصة حياة
تقول الجارحي: “لم يكن الأمر سهلًا، واجهنا شكوكًا في البداية، وكان علينا أن نثبت أن الطعام يمكن نقله وتخزينه بطريقة صحية وآمنة. لكن بمجرد أن بدأنا، لمسنا التأثير العميق لما نقوم به، ليس فقط على العائلات المحتاجة، ولكن أيضًا على المتطوعين الذين أصبحوا يشعرون بقيمة العطاء الحقيقي.”
بالنسبة للكثيرين، قد يكون الطعام مجرد حاجة يومية، لكنه بالنسبة لسيدة مثل أم يوسف، التي تعيل أربعة أطفال بعد وفاة زوجها، يمثل كل طبق يصل إلى منزلها فارقًا بين ليلة جائعة وأخرى مشبعة بالأمل. تقول: “كنت أحيانًا أنام وأنا أفكر ماذا سأطعم أطفالي في اليوم التالي، حتى جاءني أحد المتطوعين بوجبة كافية لنا جميعًا. لم أشعر فقط بالشبع، بل شعرت أن هناك من يهتم بنا.”
هذه القصص تتكرر مع كل وجبة تُنقل بحرص، مع كل طبق يصل إلى يد محتاج، ومع كل نظرة امتنان في أعين من اعتادوا على المعاناة في صمت.
بين الدعم والتحديات.. الحلم مستمر
المشروع الذي بدأ بفكرة بسيطة أصبح الآن منظومة متكاملة، بدعم من سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة، وشركة “أورباسير ماب” التي قدّمت حافلة مخصصة لحفظ ونقل الطعام، إلى جانب مساهمات من فنادق العقبة ومبادرات تطوعية مثل “اترك أثر”. كما تخضع جميع الوجبات لرقابة صحية صارمة، حيث تقوم فرق صحة العقبة بفحص الطعام يوميًا لضمان جودته وسلامته.
لكن رغم النجاح، لا تزال التحديات قائمة. فاستدامة المبادرة تتطلب دعمًا مستمرًا وإمكانات لوجستية أكبر، وهو ما تأمل الجارحي في تحقيقه عبر تأسيس “بنك طعام” يضمن استمرار هذه الجهود طوال العام، وليس فقط في رمضان.
وجبات أمل.. ورسالة إنسانية تتجدد
في زمن تزداد فيه الفجوة بين من يملكون ومن لا يجدون، يأتي مشروع “حفظ النعمة” ليعيد تعريف العمل الخيري، ليس كفعل مؤقت، بل كنموذج مستدام يعزز مفهوم التكافل الحقيقي. ومع كل وجبة تصل إلى بيت محتاج، يثبت الشباب المتطوعون أن الخير لا يحتاج إلى إمكانيات ضخمة، بل إلى قلوب مؤمنة بأن العطاء قادر على تغيير الحياة، ولو بوجبة طعام واحدة.


