
بقلم: موسى الدردساوي
في مدينة لا تزال تحمل ندوب قرن مضطرب، وتنهض كل يوم بإصرار على أن تكون منارة للعالم، اجتمع ما يزيد عن أربعة آلاف شخص من أنحاء المعمورة، ليس فقط ليؤكدوا التزامهم بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، بل ليعيدوا تعريف ما تعنيه العدالة، والكرامة، والانتماء. في قلب برلين، بين جدران قاعات امتلأت بالأصوات واللغات واللهجات، وُلدت لحظة إنسانية فريدة، لحظة تشبه الحلم لكنها واقعية، ملموسة، قوامها الإرادة والتضامن.
لم يكن الحاضرون هناك من أجل التوثيق أو التصفيق، بل من أجل التغيير الحقيقي. وقد تجسد ذلك حين وقف جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين، وسط الحضور قائل
تواجه جميع الدول اليوم، من أغناها إلى أفقرها، تحديا يتمثل في الحفاظ على حقوق إخواننا وأخواتنا من الأشخاص ذوي الإعاقة. والدور الأهم في تحقيق النجاح في ذلك يقع على عاتق مجتمع الأشخاص ذوي الإعاقة. إن عملكم المستند إلى المعرفة والخبرة بإمكانه أن يحدث فرقا كبيرا في حياة الآخرين.
نعم جملة اختصرت كل شيء: “لا شيء عنا بدوننا”. كانت العبارة بمثابة مرآة عاكسة لرؤية عميقة، ترى في كل فرد، مهما كانت إعاقته، كائناً كاملاً، فاعلاً، جديراً بالمشاركة وبالقرار. لم تكن الكلمات شعارات، بل دعوة جادّة لإعادة ترتيب أولويات العالم.
القمة العالمية الثالثة للإعاقة، التي نظمها الأردن وألمانيا بالشراكة مع التحالف الدولي للإعاقة، لم تكن حدثاً عابراً. كانت نقطة تحوّل. فيها وُقّع “إعلان عمّان – برلين”، الذي التزم فيه المشاركون بتخصيص 15% من برامج التعاون التنموي للأشخاص ذوي الإعاقة. وهذا الرقم، رغم بساطته الظاهرة، يحمل بين طياته وعداً بكسر صمت طويل، وتهميش أطول، عاشه الملايين ممن وُضعوا على الهامش قسراً.
ولم يكن الدور الأردني شكلياً أو بروتوكولياً، بل كان ريادياً. فالأردن، بقيادة جلالة الملك وجهود سمو الأمير مرعد بن رعد، جاء إلى برلين محمّلاً بـ 120 التزاماً ملموساً، ورسالة واضحة: أن الإدماج ليس فقط واجباً، بل خياراً حضارياً. هذه الرؤية الأردنية لم تكن مصطنعة، بل نتاج ثلاث سنوات من التخطيط والعمل الدؤوب، ومن تفاعل حقيقي بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، وبين من يعيشون التجربة بكل تفاصيلها اليومية.
في الزوايا الأقل صخباً من القاعة، حيث لا تلتقط الكاميرات، دارت حوارات أكثر صدقاً. حيث التقى ناشطون من خلفيات وتجارب مختلفة، يتحدثون عن العدالة كما تُعاش، لا كما تُكتب. رأيت في عيونهم شغفاً لا يُعلّم في الكتب، وإيماناً بأن الكفاح لا يتوقف عند قرار دولي، بل يبدأ منه. تحدّثوا عن المساءلة لا بوصفها أداة عقاب، بل بوصفها طريقاً نحو تمكين حقيقي، ووسيلة لتثبيت الكرامة في الواقع لا على الورق.
في خضم كل هذه الأضواء، كانت غزة حاضرة في قلب الحديث. حيث تحدث جلالة الملك عن “استعادة الأمل”، المبادرة الأردنية التي أعادت الحياة إلى أكثر من 400 شخص من مبتوري الأطراف، معظمهم من الأطفال. لم تكن أرقاماً تُسرد، بل وجوه، وأحلام عادت إلى الركض. من شاحنة متنقلة، في أرض محاصرة، رُكبت أطراف صناعية، وبُثّ أملٌ جديد. تلك اللحظة لم تكن فقط عملاً إنسانياً، بل إعلاناً بأن الابتكار والرحمة قادران على صنع المعجزات حتى في أحلك الظروف.
لكن القمة، رغم وهجها، لم تكن نهاية الطريق. بل بدايتها. فمن أجل أن تتحول الالتزامات إلى واقع، يحتاج الأمر إلى ما هو أكثر من النوايا الحسنة. على المستوى المحلي، تحتاج الدول إلى تفعيل القوانين القائمة، مثل قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في الأردن، وتوفير موارد حقيقية للتعليم الشامل، وتسهيل الوصول إلى سوق العمل والمرافق والخدمات. ويحتاج أصحاب القرار إلى أن يصغوا، فعلاً لا قولاً، لأصوات ذوي الإعاقة، وأن يضعوهم في قلب السياسات لا على هامشها.
وعلى الصعيد الإقليمي، آن الأوان لتوحيد الجهود، وبناء شبكات تعاون تتشارك الخبرات والتحديات، وتبتكر حلولاً تقنية واجتماعية تليق بهذا التنوّع البشري. لم يعد مقبولاً أن تُدار قضايا الإعاقة من خارجها، أو أن يتم النظر إلى الأشخاص ذوي الإعاقة كمتلقين للرعاية فقط. إنهم شركاء، قادة، ومبدعون، أثبتوا أن الإعاقة لا تُقاس بما ينقص، بل بما يُضاف إلى الإنسانية من خلالهم.
برلين احتضنت العالم في لحظة صدق. لحظة وضعت فيها المصطلحات جانباً، وتقدمت القيم. لحظة تجرّدت فيها السياسات من التجميل، لتُكشف حقيقتها: إما أن تكون عادلة، أو لا تكون. وفي تلك القاعة، وبين الحكايات والدموع والضحكات، اتضح أن الطريق نحو الشمولية طويل، لكنه ليس مستحيلاً.
ما يجعل هذا الطريق جميلاً، أن من يسير فيه لا يحمل فقط شعارات، بل يحمل الأمل نفسه… على كتفيه.



