
صورة تعبيرية
وكالة تليسكوب الإخبارية – بقلم: الإعلامي موسى الدردساوي
لم يكن أحد ليتوقع أن منشورًا عابرًا على مجموعة تواصل اجتماعي، أو مقطعًا صوتيًا يتداوله البعض بلا اكتراث، يمكن أن يتسلل كزلزال صامت إلى جدران بيت مستقر، ويزعزع طمأنينته من الداخل. لم يكن أحد ليتخيل أن إشاعة، بحجم جملة، قد تنتزع من قلب طالب كل ما بناه من أمل وأحلام، كما حدث مع ليث، ابني.
ليث، الطالب المجتهد الذي كانت دفاتره مرتبة كخطط معركة، والذي كان يسابق الأيام باتجاه امتحان التوجيهي، لم يعد هو ذاته. شيئًا ما انكسر فيه فجأة، بلا سابق إنذار. لم يعد يسأل عن الجدول الزمني، ولا عن عدد الأيام المتبقية، ولا حتى عن جامعته التي طالما رسم ملامحها لي وكأنها عالمه القادم. عينيه، اللتين كانتا تلمعان بحماسة المعرفة، أصبحتا معتمتين، وصوته بات يحمل نبرة لا تشبه عمره.
نهار يوم أمس سألني بصوت خافت لكنه حاسم: “بابا، إذا قامت حرب عنا، شو الفايدة من التوجيهي؟” لم يكن سؤالًا عابرًا، بل جرس إنذار انطلق من قلب طفل يرتجف من صور ومقاطع وعبارات طافت على هاتفه المحمول، دون رقيب أو تمحيص. كان يبني تصوراته عن العالم من خلال الفضاء الرقمي، لا من خلال الواقع، ولا حتى من البيانات الرسمية.
في تلك اللحظة فقط، أدركت أن الكلمات، التي نلقيها على عجل، قد تكون سلاحًا غير مرئي. وأن أطفالنا، مثل ليث، لا يملكون الفلاتر التي تميز بين التهويل والحقيقة، بين السخرية والمعلومة، بل يرون العالم كما يشعرون به، لا كما هو في الواقع.
ما نعيشه اليوم ليس مجرد فوضى معلومات، بل فوضى مشاعر. ولسنا بحاجة إلى المزيد من العناوين الصاخبة، بل إلى وقفة صادقة مع أنفسنا. كل كلمة نكتبها أو نرددها، حتى لو ظنناها بسيطة، قد تكون حجارة تُلقى في بحيرة راكدة، تثير دوامات لا نراها.
وفي خضم هذا الاضطراب العاطفي والمعرفي، جاء صوت ولي العهد، سمو الأمير الحسين بن عبدﷲ الثاني، حاسمًا وواضحًا كالبوصلة في زمن التيه، مؤكدًا أن أمن الأردن وسلامة أراضيه فوق كل اعتبار، وأن الشعب الأردني لن تنال منه حملات التضليل. دعانا للثقة، للتمسك بالمصادر الموثوقة، للوعي. لكن هذا الصوت، مهما بلغ من القوة والوضوح، لن يجد صداه الحقيقي ما لم نتبنَّاه نحن في حياتنا اليومية، في بيوتنا، في أحاديثنا، وفي كل كلمة نُطلقها في فضاء بات لا يعرف النسيان.
ليث عاد إلى دفاتره، تدريجيًا، بعد حديث طويل لم يكن عن السياسة ولا عن الجغرافيا، بل عن الثقة. عن الأردن الذي وقف شامخًا رغم كل العواصف. عن الوطن الذي لا يتخلى عن أبنائه، مهما اشتدت الأزمات. لكنه عاد، لأن أحدًا التفت إليه. كم من ليث آخر ينتظر من يربت على خوفه، ويعيد إليه يقينه؟
نحن اليوم أمام اختبار حقيقي، لا يتعلق بالخطر الخارجي بقدر ما يتعلق بطريقة تعاملنا معه. في زمن الضجيج، قد يكون الصمت فعلًا مسؤولًا، وقد يكون التريث أنبل من الاندفاع. لنحمل الكلمة كما نحمل الوطن: بوعي، بصدق، وبمحبة. من أجل ليث، ومن أجل كل طالب يحلم بمستقبل، فلنصن طمأنينتهم، لأنهم هم الغد الذي نراهن عليه.