وكالة تليسكوب الإخبارية
لم يكن الخبر عادياً.. ولا الطلب مألوفاً.. حين خرج نقيب الأطباء برسالةٍ رسميةٍ إلى أطباء وزارة الصحة.. يطالبهم بعدم الالتزام بجهاز البصمة في الحضور والانصراف.. ويوعدهم بالعمل الجاد.. على إلغاء أي عقوبةٍ قد تطالهم.. نتيجة عدم الالتزام.. مُعلِّلاً ذلك.. بأن كرامة الطبيب فوق هذا الجهاز الإلكتروني.. وكأن كرامة المهنة تُهان.. حين تمر إصبع اليد على سطحٍ زجاجي.. لتسجيل وقت الدوام.. لا حين يتأخر الطبيب عن مريضه.. أو لا يحضر من الأساس.. أو يترك مرضى الطوارئ في زحام الانتظار.. كي يلحق بعيادته الخاصة.. قبل أن تزدحم الأرصفة..
هذا الموقف يفتح باباً لا يجرؤ كثيرون على طرقه.. باب المسؤولية المزدوجة.. فمن جهةٍ هناك نقابة يفترض بها أن تدافع عن حقوق الأطباء.. وتحسن ظروفهم.. وتطور مهاراتهم.. وترفع من شأنهم العلمي والمهني.. ومن جهة أخرى.. هناك مواطنٌ بسيط.. قد يسهر ليله بجانب مريضه في قسم الطوارئ.. ينتظر طبيباً لم يحضر بعد.. أو طبيباً انصرف دون أن يسجل انصرافه.. أو طبيباً تذرع بكرامته.. كي لا يلتزم بالدوام الذي يتقاضى عليه راتباً من المال العام..
فهل دور النقابة هو حماية الطبيب من الانضباط؟!.. أم حمايته من الظلم والضغط الإداري غير المشروع؟!.. وهل تُقاس كرامة الطبيب.. بمقدار ما يُستثنى من الالتزام.. أم بمقدار ما يُعطي من وقته وجهده.. وهو حاضرٌ حين يغيب الآخرون؟!..
ما نخشاه أن يتحول هذا الخطاب إلى غطاء رسمي للتسيب.. وسند معنوي للغياب غير المبرر.. وخاصة حين يتعلق الأمر بالأطباء أصحاب التخصصات الدقيقة.. أولئك الذين يعرف المواطنون بعضهم بأسمائهم من كثرة غيابهم.. وتداول قصصهم في صالات الانتظار.. فمَن يحمي كرامة المريض؟!.. ومَن يدافع عن وجع الأمهات في ممرات المستشفيات.. حين لا يجدن طبيب أطفال في ساعة الحاجة؟!..
النقابات ليست بيوت عزاء.. ولا أبراجاً عاجية.. إنها مؤسسات مهنية.. يفترض أن تكون مرآة للضمير المهني.. وصوتاً متزناً.. لا يُهادن في الحق.. تحاسِب قبل أن تُحاسَب.. وترفع الصوت في وجه الظلم.. لا في وجه الالتزام.. فالمهنية لا تتنافى مع النظام.. والكرامة لا تسقط على أعتاب البصمة.. بل تسقط حين يشعر المواطن.. أن المؤسسات تعمل على حماية مصالح موظفيها.. لا على خدمة مَن وُجدت لأجله.. المواطن..
نعم.. من حق الطبيب أن تُحترم كرامته.. وأن لا يُعامل كعامل عادي.. مع احترامي لكافة المهن.. ولكن من واجبه أيضاً.. أن يحترم وقت المرضى.. وأن يقدّم للقطاع العام.. ما يستحق من الانضباط.. فلا يُعقل أن يتحول المستشفى إلى مكان يُزار على الهامش.. ولا أن تُضرب ساعة الدوام بالحائط.. ثم نبحث عن جودة الخدمة..
ولو ألغينا البصمة.. فمَن يضبط الدوام؟!.. ومَن يقيس الانضباط؟!.. ومَن يراقب التزام مَن لم يعد يحضر.. إلا حين يشاء؟!.. هل نترك ذلك لتقدير الضمير.. أم ننتظر الشكاوى.. حتى نعرف أن الطبيب لم يحضر منذ أسبوع؟!.. أم نعتمد على كاميرات المراجعين.. التي توثق الفراغ في أقسام الطوارئ؟!..
القرار الصائب.. لا يكون دفاعاً عن مهنة على حساب الخدمة.. ولا يكون من باب المزاودة في الكرامة.. بل يكون مزيجاً من العدل والانضباط.. يكرم الطبيب حين يلتزم.. ويحاسبه حين يستهين.. فليس الطبيب وحده مَن له كرامة.. بل كل مريضٍ له وجع.. وكل أمٍ لها دمعة.. وكل مواطنٍ له حق..
هذا هو ميزان النقابة.. إن أرادت أن تبقى راعية للمهنة.. لا غطاءً للتسيب..
فهل من متّعظ؟!..
محمود الدباس – أبو الليث..